العملاق جمال عبدالناصرفى عام 1957 وبعد خمس سنوات من ثورة يوليو 1952 عبر جمال عبدالناصر بمصر فى الداخل والخارج من ظلام عبودية الاحتلال الأجنبى ومجتمع الفقر والجهل والمرض الذى يعيشه 99.5% من سكان مصر إلى نور الجلاء والاستقلال والحرية ومجتمع العظمة فى محاربة الفقر والجهل والمرض، محققا حلم الشاعر شوقى والله ما دون الجلاء ويومه عيدا سيكون أهم الأعياد لمصر ومحققا حلم طه حسين فى نشر التعليم كما ينتشر الماء والهواء.. ومكافحا أمراض نشرها الاستعمار لمص دماء المصريين كالبلهارسيا والإنكلستوما والملاريا..
وكم كان هذا العملاق ناصر عظيما عام 1956 عندما أمم قناة السويس وقام ببتر ذيل الأسد البريطانى فى حرب هى أقذر حروب القرن العشرين.
كان عام 1957 والسنوات الخمس التالية له مرحلة الانفجار الثورى للحرية والنهضة فى منطقة الشرق الأوسط من الخليج إلى المحيط وبعض من دول إفريقيا وأمريكا اللاتينية وكان القدوة والمفجر الثورى هو العملاق ناصر.
وفى هذه المرحلة تحققت روعة الانتفاضات الوطنية التاريخية فى دول من أهمها الجزائر والعراق والمغرب وتونس وسوريا والسودان.. وتوج الانفجار الثورى فيها بجمهورية عربية متحدة لن ينساها التاريخ بين مصر وسوريا 1958 1961.
وهكذا وبعد مرور عشر سنوات على ثورة يوليو 1952، كانت الخمسية الثالثة للعملاق ناصر 1962 - 1966 هى أصعب مراحله التى حاول فيها الانطلاق متحديا حلفاء أمريكا فى أقذر حروب القرن العشرين وقد كان عام 1962 بداية للضربات المضادة لتحطيم طموحات ناصر حيث تم تدمير نواة الوحدة القومية العربية بين مصر وسوريا ثم تلاها حتى عام 1966.. ما يلى من ضربات:
1- وجود قوات الاحتلال وزيادتها فى عدن اليمن الجنوبى ومحميات الخليج العربى دول الآن التى كانت تعيش مجتمعاتها حياة القرون الوسطى هى واليمن الشمالى وبعد طردها وقيادة حلف الأطلنطى من قناة السويس محققة الفصل الاستراتيجى للقومية العربية شرقها وغربها.. مع ضمان الملاحة البحرية من الجنوب فى مضيقى ثيران والعقبة لإسرائيل.
2- زرع ألغام الوقيعة والعراك بين مصر ودول عربية مهمة منها عراق عبدالكريم قاسم وسوريا ما بعد القوتلى وجزائر ما بعد بن بيللا. ودول الملوك الثلاثة العربية خاصة سعودية الذهب الأسود.
3- تنفيذ حصار اقتصادى صارم على مصر تنفذه الكتلة الغربية للحرب البادرة بزعامة أمريكا. وبهدف تحطيم العملاق من الداخل مما حقق تقوية وعظمة علاقاته مع كتلة عدم الانحياز والكتلة الشرقية.
أما عن مصر: فتعتبر الخمسية الثالثة لثورة يوليو 1962 - 1966 وكما سطر التاريخ هى الخطة الخمسية الرائعة فى تاريخها والتى حولتها علميا وزراعيا وصناعيا من مجتمع النصف فى المائة والفقر والجهل والمرض إلى مجتمع يسابق الزمن لتحقيق طموحات العملاق فيما يلى:
1- فى الصناعة: من الحديد والصلب إلى الألف مصنع.
2- فى الزراعة: من الفلاح العبد فى مزارع الإقطاع إلى الفلاح العصرى المحطم للجلبات الأزرق على اللحم وحافى القدمين.. مع الاهتمام بتصنيع المنتجات الزراعية.
3- فى التعليم: التحول المبهر من كتاب الشيخ نكلة ومدرسة إلزامى قبل الابتدائى فى قرى مصر إلى مدارس ابتدائى واعدادى وثانوى وتجارى ومعاهد دينية.. مع منح المواطن المصرى الفرصة والحق فى التعليم العالى مهما كان فقيرا..
4- فى الفنون والآداب: من فن عوالم شارع محمد على وخمارات بديعة مصابنى وصفية حلمى إلى فن عظماء المسرح والسينما والغناء وحتى الرقص فرقة رضا ومن أدب صالونات الارستقراطية والنفاق إلى أدب عمالقة الرواية والقصة من أدباء أناروا هذه المرحلة.
5- فى الدفاع وأمن مصر: من استيراد طلقة الرصاص للبندقية والمسدس إلى إنتاج حربى وطنى ينتج الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة بذخائرها بل والاستعانة بخبرات أجنبية فى إنتاج الصواريخ القاهر الظافر.
والطاقة النووية مفاعل أنشاص وصناعة السيارات نصر وصناعة الطائرات القاهرة...
ومن قوات مسلحة ولدت فى حرب 1948 إلى جيش وطنى قوى صارع أقذر الحروب عام 1956 إلى جيش وطنى يجعل من مصر أقوى الدول عسكريا بالمنطقة.
6- فى الإعجاز العلمى والتاريخى: إقامة السد العالى وتحويل مجرى نهر النيل مع ميلاد أكبر بحيرة صناعية فى العالم هى بحيرة ناصر على خريطة مصر.
بعد سرد ومعرفة طموحات العملاق ناصر فى الفترة 1962 - 1966 يجب ألا ننسى أنه كان خلال فترة الحرب البادرة بين الكتلتين الشرقية والغربية النجم الساطع فى الكتلة الثالثة وهى كتلة عدم الانحياز.. كما يجب الإجابة عن سؤال مهم هو: لماذا أرسل ناصر بعضا من القوات إلى اليمن؟ وهل كان هذا سببا لنتائج حرب 1967؟ وللإجابة نقول إن ناصر ومنذ قيام الثورة وقف مع الجزائر وعاونها بالعتاد والرجال إلى أن تحررت من الاستعمار الفرنسى.
وإنه فى خلال مرحلة الوحدة مع سوريا كان لمصر بعض من قواتها فيها.. وقد لا يعلم الكثير أن مصر فى الستينيات كانت قواتها المسلحة تضم بعضا من القوات المسلحة من كل من الجزائر والسودان وفلسطين والكويت وسوريا.
أما عن اليمن الشمالى العربى الشقيق فإن ناصر لم يرسل بعضا من قوات مصر لدعم ثورته على التخلف ونقله من القرون الوسطى للقرن العشرين فقط كما يتصور الجهلاء.. ولكن كان هناك هدف استراتيجى للأمن القومى المصرى.. هو مطاردة قوى الاحتلال البريطانى التى طردت من قناة السويس وتمركزت فى اليمن الجنوبى بقاعدة عدن لتضمن سلامة الملاحة لإسرائيل بعد طردها من سيناء وتمركزت قوات دولية فى مضيق ثيران بشرم الشيخ.. فى حرب 1956 وقد كان للقوات المصرية فى اليمن الفضل فى محورين الأول بنجاح ثورة اليمن الشمالى، والثانى دعم العملية صلاح الدين التى يقوم بها الأبطال الفدائيون من أبناء اليمن الجنوبى ضد المحتل فى قاعدة عدن.
ولن ينسى التاريخ للعملاق ناصر أنه محرر اليمن الجنوبى من الاستعمار، وأنه موحد لليمن الشمالى واليمن الجنوبى فى دولة هى دولة اليمن، وأن هذه القوات ذهبت للتحرير وليس للاحتلال وللتعمير وليس للتدمير وتوحيد قطرين عربيين شمالى وجنوبى فرقهما الاستعمار وتمهيدا لوحدة عربية يكون فيها البحر الأحمر بحرا عربيا.
ولمن يعيب على ناصر ذهاب بعض من قواته لليمن نرجوه أن يجيب عن سؤال مهم هو: لماذا اشترت إسرائيل الآن جزرا من إريتريا فى مدخل البحر الأحمر ومتمركزة بها حاليا قوات إسرائيلية مع بداية هذا القرن الجديد من الزمان؟!
وبعد أن سطر القلم ما سبق ليعرف شباب مصر من هو العملاق ناصر خلال فترة 1952 - 1966 فليعلموا أن هذا العملاق خلال هذه الفترة كان مستهدفا القضاء عليه وعلى طموحاته من دول الاحتلال ومصاصى دماء الشعوب الضعيفة ذات الثروات الطبيعية الهائلة.
فعندما عاون ثورة الجزائر خططت فرنسا لقتله فى مجلس قيادة الثورة بالجزيرة بمجموعة كوماندوز تتحرك بقارب من سفارتها على النيل لتهاجم مجلس القيادة للثورة وتنفذ المهمة التى عادت وجبنت وألغت التنفيذ.
وقبل أحداث الحرب فى 1956 وبعد تأميم قناة السويس أصدر رئيس الوزراء البريطانى إيدن أوامره لأجهزة مخابراته لتنفيذ قتل العملاق ناصر وفشلت هذه الأجهزة فى التنفيذ.
وفى الستينيات حاولت إسرائيل قتل العملاق بعميل يعمل جرسونا فى محال جروبى لولا عيون الصقر العملاق التى أربكت الجرسون فسقط منه المشروب السام على الأرض وفشلت المحاولة.
وبعد فشل هذه المحاولات قام أطراف الحرب فى 1956 بتعديل الهدف ليكون ليس قتلا للعملاق ولكن تدميرا له ولقواته المسلحة لإهانته أمام شعبه والشعوب العربية مع دفن طموحاته وتحدد عام 1967 لتنفيذ ذلك.
وجاء عام 1967 حيث كانت فيه أمريكا تغوص فى وحل حرب فيتنام حتى الرقبة. وفاشلة فى تحقيق احتلالها لها، وكانت مصر ببعض من قواتها فى اليمن الشمالى تقف مع شعبها محررا نفسه من حياة القرون الوسطى ليحيا فى القرن العشرين ومجاهدا لضم شطريه الجنوبى المسمى باليمن الجنوبى ولمن لا يعلم فقد كان عام 1967 من أصعب الأعوام التى مرت على قوات قواعد الاحتلال فى عدن واليمن الجنوبى نظرا لما تعرضت له من أعمال النسف والتدمير التى قامت بها مجموعات الأبطال والفدائيين والانتحاريين والكوماندوز من رجال وقبائل اليمن الجنوبى الذين ينطلقون لتنفيذ مهامهم من اليمن الشمالى العملية صلاح الدين.
ولن ينسى التاريخ للعملاق أنه لو مر عام 1967 دون تدميره هو وقواته لكان عام 1968 هو عام فرحة الكبير فى توحيد اليمن وطرد فلول الاحتلال التى انتقلت من السويس إلى عدن.
وعن خطة تدمير العملاق وقواته عام 1967:
تم تحديد المنفذ فى حرب 1956.. إسرائيل وقام بالتخطيط الذى فشل تخطيطه فى حرب 1956 وغابت عن امبراطوريته الشمس.. بريطانيا، وقام بالتأييد والدعم والمعاونة فى حرب 1956 فرنسا طريدة الجزائر وقناة السويس.
وقام بالمباركة والتشجيع.. أمريكا.. وأعداء العملاق.. فى دول عربية.
وهكذا كانت الخطة ولكن كيف تبدأ الضربة التى سبق أن تدربت عليها إسرائيل فى عام 1956.
كان لابد من اختراق العملاق وقواته باستطلاع استراتيجى لا يخطر على بال بشر على أن يتم ذلك قبل تنفيذ الضربة بأيام لا تتعدى شهرين.
وفى علم فن القتال يقوم بعمليات الاستطلاع لجمع المعلومات قبل الحرب رجال المخابرات ويتدرج الاستطلاع من المستوى التكتيكى إلى التعبوى إلى الاستراتيجى بنقط الملاحظة بالنظر على الحد الأمامى للقوات أو دفع مفارز استطلاع لخطف أسير وجمع أو تأكيد معلومات أو إبراز مفارز ودوريات استطلاع خلف خطوط العدو فى عمق دفاعاته أو تجنيد مدنيين أو عسكريين من الطرف المعادى للقوات المهاجمة.
هذا بخلاف الاستطلاع الحديث من الجو أو بالأقمار الصناعية ونعود إلى عام 1967 حيث كان فيها ناصر سعيدا وفخورا بما يحدث فى اليمن الجنوبى لتحريره ليصبح البحر الأحمر بحرا عربيا ولم يكن يعلم أن خطة تدميره وقواته بدأ الإعداد لها حيث أطلق عليه أعداؤه الديك الرومى. وكان لابد لتدميره من معرفة نواياه باختراق لا يخطر على بال بشر.
وقد تم هذا الاختراق طبقا للتخطيط البريطانى وبعد الرجوع إلى محاربيه القدماء فى الحرب العالمية الثانية ليتم على الوجه التالى:
أولا: بمناسبة ذكرى الانتصار فى معركة العلمين غرب الإسكندرية تم دفع بطلها الفيلد مارشال مونتجرى لحضور الذكرى ولقاء ناصر وقائد قواته عامر والانصات لهما للوقوف على نواياهما وأفكارهما وقدراتهما.. مع تقديم بعض نصائح كان أهمها: سيناء لا تصلح لتمركز قوات مسلحة كبيرة فيها ويجب أن يتم القتال فيها بالوثب من القناة إلى مزارع فلسطين أو العكس.
ثانيا: لاختراق ناصر وقواته فى اليمن تم دفع الملك سعود ملك السعودية الذى تنازل لأخيه فيصل عن العرش لزيارة مصر ولقائه ناصر وقائد قواته طالبا السماح له بزيارة اليمن للتبرع لكل من مدن الحديدة وصنعاء وتعز بمليون دولار لتطويرها وقد نفذ طلبه وصحبه عامر وتم الاختراق بالزيارة حيث قضى ليلة فى كل مدينة من المدن الثلاث.
وللتاريخ يعتبر هذا الاستطلاع الاستراتيجى لاختراق رئيس دولة وقائد قواته بواسطة ملك سابق.. وفيلد مارشال محارب قديم هو قمة الدهاء البريطانى فى التخطيط لتدمير ناصر وقواته. ولم يسجل التاريخ من قبل حدثا كهذا.. وعلى هذا المستوى.. ومن هذا الاستطلاع استفاد المنفذ إسرائيل حيث تكرر تدمير القوات الجوية والطائرات على الأرض كما حدث فى 1956 مع القفز من مزارع فلسطين إلى ضفة القناة الشرقية تماما كما حدث فى تخطيط الحرب القذرة فى 1956.. وكانت حرب 1967 بالنسبة لمصر ليست انسحابا أو هزيمة أو نكسة ولكنها ضربة مكررة لتدمير العملاق ونفذها خصومه آملين استعادة قناة السويس وعدلت الضربة لتكون بدلا من التنفيذ من الشمال فى بورسعيد إلى السويس فى الجنوب بإنجلترا وفرنسا حيث أصبحت من الشرق إلى الغرب حتى الضفة الشرقية للقناة وآملين بعد إحراج العملاق أمام شعبه أن يولد عميل بتفاوض معهم وتعود القناة إلى ما كانت عليه قبل التأميم.
لكن كان لشعب مصر وخير أجناد الأرض عظمتهم فى احتضان العملاق وتحدى الضربة وكم كان العملاق ناصر شامخا فى السنوات الأخيرة من عمره 1968 - 1970، حين حملته جماهير مدينة الخرطوم بسيارته على الأعناق فى مؤتمر الخرطوم وحين عادت قواته فى اليمن بعد أن أدت رسالة سبق إيضاحها وحين تحرر اليمن الجنوبى من الاحتلال وتوحد مع الشمالى فى دولة اليمن الحالية وحين أعيد تنظيم القوات المسلحة وولد الجيش الثالث وقوات الدفاع الجوى المدفعية المضادة للطائرات سابقا وحين تمت إقامة حائط الصواريخ مع تساقط الطائرات الفانتوم المعادية وحين ولدت وتدربت فرقة مدرعة ليصبح لجيش مصر فرقتان بدلا من واحدة وحين استعادت قوات العملاق كفاءتها القتالية العالية وأصبحت قواته البحرية لها القدرة على غلق مدخل البحر الأحمر فى عدن.. وحين استشهد رئيس أركان حرب القوات عبدالمنعم رياض وحين حقق التصالح الأردنى الفلسطينى فى أيلول الأسود عام 1970.
وفى يوم 28 سبتمبر 1970 توفى العملاق ناصر شامخا بعد نجاحه فى تحقيق المصالحة الأردنية الفلسطينية وعودته من المطار إلى داره متحديا آلامه حتى فاضت روحه على سريره فى هذه الدار المتواضعة التى كانت سكنا أميريا له كضابط قوات مسلحة بدلا من صرف بدل سكن قدره أربعة جنيهات لمن لم يحدد له سكن.
وقد سجل التاريخ لهذا العملاق أن قواته المسلحة وشعبه حافظوا على عهده وساروا على خطاه التى كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق نصر ساحق بفكر عملاق من صعيد مصر، للثأر عنده قدسية وعقيدة.
وكم كانت سنوات الحزن قاسية على قوات العملاق حتى كانت حرب أكتوبر 73 التى نسب نصرها إلى كل من السادات والملك فيصل!
وهنا يحق القول إن ما نحياه الآن وما يدور له جذور ومن بين ما سبق سرده من سطور يمكن بسهولة فهم الأمور.
وفى الخاتمة لا يفوتنا إلا أن نطلب الرحمة ونقرأ الفاتحة لمن مات عملاقا فى مخدع نومه ومن مات ملكا قتيلا فى قصره ومن مات رئيسا قتيلا وسط جنوده.
ويا شباب مصر وخير أجناد الأرض كتب عليكم القتال وهو كره لكم حتى تقوم الساعة، وحرب أكتوبر 1973 ليست هى آخر الحروب كما ردد من نسبوا نصرها لهم.
* اللواء أركان حرب بالمعاش
قائد المجموعة الثالثة للسيطرة الإدارية بالقيادة العليا للقوات المسلحة فى حرب أكتوبر 1973
منقــــ ــــ ـــــ ـــــــــــــــــول كتبه صطفى سلامه